النفس البشرية بين النرجسية والوفاء

النفس البشرية بين النرجسية والوفاء

Rating 0 out of 5.
0 reviews

النفس البشرية بين النرجسية والوفاء

النفس البشرية تحمل في طياتها تناقضات لا تنتهي. فهي قادرة على السمو بالإنسان إلى قمة العطاء، وقادرة أيضاً على إسقاطه في هاوية الاستغلال والخيانة. هذا التناقض لا يظهر في الفراغ، بل في التجارب اليومية، خاصة في بيئات العمل، حيث تضع الضغوط الإنسان أمام اختبار حقيقي يكشف وجهه الأصيل.

النرجسية: وهم القوة

علم النفس يصف النرجسية بأنها اضطراب في الشخصية، يتسم بالإحساس المفرط بالأهمية، الحاجة الدائمة للإعجاب، مع انعدام القدرة على التعاطف مع الآخرين. لكن ما يجعل النرجسي خطراً في محيط العمل ليس مجرد حبه لذاته، بل قدرته على إخفاء وجهه الحقيقي. يظهر أحياناً كقائد عادل أو زميل متعاون، لكنه عملياً يسعى للهيمنة، ويصر على التقليل من شأن الآخرين.

التجربة مع هذه الشخصية مرهقة. من يعمل بجانبه يستهلك طاقته النفسية والجسدية بلا مقابل، لأن النرجسي يقتات على إنجازات غيره. حتى عندما يحقق الفريق نجاحات غير مسبوقة، يظل اهتمامه منصباً على تعزيز صورته الشخصية، لا على تقدير من حوله. وهنا يكمن الخطر: النجاح يتحول إلى أداة للسيطرة، لا إلى حافز للتعاون.

 

مروجو الفتن: الاضطراب الجماعي

هناك نمط آخر يتغذى على الفوضى. هؤلاء الأشخاص لا يملكون طموحاً حقيقياً، لكنهم يجدون متعتهم في تمزيق العلاقات. في علم النفس الاجتماعي، يوصف هذا السلوك بأنه "عدوان غير مباشر"، حيث يستخدم الفرد الإشاعات والشكوك لخلق صراعات داخل الجماعة.

وجود هؤلاء في بيئة العمل أشبه بفيروس يضعف المناعة. لأنهم يحولون الطاقة الموجهة نحو الإنتاج إلى صراعات داخلية. النتيجة تكون إحباطاً عاماً، وانقساماً في الفريق، وإضعافاً لأي فرصة للتطور.

 

الخيانة بعد المساعدة: النكران المتجذر

من أصعب المواقف التي قد يواجهها الإنسان أن تمتد يده لمساعدة شخص ضعيف أو مهمش، ثم يفاجأ لاحقاً أن هذا الشخص نفسه هو من يوجه له الطعنات. هذا السلوك يرتبط بما يعرف في علم النفس بـ"انعدام الامتنان المرضي"، حيث يعجز الفرد عن الاعتراف بفضل الآخرين عليه، ويحوّل شعوره بالضعف السابق إلى رغبة في الهيمنة على من ساعده.

هذا النمط يفضح هشاشة داخلية. فالشخص الذي يتجاهل ماضيه أو يشيح بوجهه عن من وقف بجانبه، لا يفعل ذلك بدافع القوة، بل بدافع الخوف من مواجهة صورته القديمة. إنه يهرب من ضعفه بالإنكار، لكنه في النهاية يبقى أسيراً له.

 

الوجه الآخر: التلاميذ الأوفياء

رغم كل هذا السواد، هناك وجوه تبعث الأمل. أشخاص تعلموا على يدك، كانوا تلاميذك، ورغم قلة خبرتهم تمسكوا بالوفاء والإخلاص. هؤلاء يثبتون أن القيم الإنسانية لم تمت، وأن الاحترام يمكن أن يكون قاعدة صلبة للعلاقات.

في علم النفس الإيجابي، يُنظر إلى الوفاء على أنه قيمة أساسية تسهم في رفاهية الفرد والمجتمع. الشخص الوفي لا يحافظ فقط على صورته الأخلاقية، بل يعزز أيضاً الثقة بينه وبين الآخرين، وهو ما يجعل التعاون ممكناً حتى في أصعب الظروف. هؤلاء الأوفياء هم الدليل على أن الإنسان قادر على مقاومة النزعات الأنانية، وأن التربية بالقيم تثمر حتى وسط بيئة مليئة بالاضطراب.

 

الأثر النفسي للتجربة

الاحتكاك بهذه الأنماط يترك آثاراً نفسية عميقة. الضغوط المستمرة قد تؤدي إلى إرهاق نفسي، وربما إلى أعراض مرضية. لكن الجانب الإيجابي يكمن في أن هذه التجارب تفتح عيون الإنسان على حقيقة العلاقات. فهي تعلمه أن النجاح لا يقاس بمدى رضا الآخرين، بل بقدرته على الحفاظ على كرامته، وعلى تمييز من يستحق أن يبقى بجانبه.

image about النفس البشرية بين النرجسية والوفاء

إلى من يظن أن النرجسية تمنحه قيمة، اعلم أن الاحترام لا يُشترى ولا يُفرض، بل يُكسب من خلال الفعل.

إلى من يعيش على الفتن، تذكر أن حياتك ستظل دائرة مغلقة، لأنك لم تتعلم كيف تبني.

إلى من خان اليد التي امتدت إليه، صورتك الحقيقية ليست في منصبك الحالي، بل في لحظة ضعفك الأولى التي كشفت حقيقتك.

وإلى الأوفياء، أنتم الحجة الدامغة على أن القيم لا تموت، وأن المعلم الحق يثمر في تلاميذه، لا في شهاداته.

 

الكرامة: جوهر لا يُساوم

أهم ما تكشفه هذه التجارب هو أن الكرامة غير قابلة للتفاوض. قد يخسر الإنسان وظيفة أو مكانة اجتماعية، لكنه إن حافظ على احترامه لنفسه، يكون قد فاز بما لا يُقدّر بثمن. الكرامة ليست شعاراً يُرفع، بل سلوك يومي يظهر في كل موقف: في الاعتراف بفضل الآخرين، في احترام الخصوم، وفي التمسك بالمبادئ مهما كانت الضغوط.

 

خلاصة

النفس البشرية ستظل مسرحاً لصراع دائم بين الأهواء والقيم. هناك من يختار النرجسية، ومن يختار الفتنة، ومن يختار الخيانة. لكن هناك أيضاً من يظل وفياً، متفانياً، متمسكاً بالاحترام.

السؤال الذي يجب أن يطرحه كل إنسان على نفسه ليس عن قوته أو نفوذه، بل عن الوجه الذي سيبقى بعد أن تسقط كل الأقنعة. هل سيكون وجهاً يبعث على الثقة والوفاء، أم وجهاً يفضح النرجسية والخذلان؟

comments ( 0 )
please login to be able to comment
article by
articles

7

followings

5

followings

9

similar articles
-