“متلازمة كوتارد: وهم الموت الذي حيّر العلماء منذ 140 عامًا”
“متلازمة كوتارد: وهم الموت الذي حيّر العلماء منذ 140 عامًا”
تُعدّ متلازمة كوتارد واحدة من أكثر الاضطرابات النفسية غرابة في تاريخ الطب النفسي. وعلى الرغم من ندرتها الشديدة، فقد لفتت انتباه الأطباء والباحثين بسبب طبيعتها غير المألوفة، إذ يشعر المصاب بها بأنّه ميت، أو بلا روح، أو أنّ أعضاءه الداخلية اختفت. هذا الاعتقاد الوهمي العميق يجعل المتلازمة من الحالات المعقّدة التي تستدعي فهمًا دقيقًا وتعاملًا خاصًا.

ما هي متلازمة كوتارد؟
ظهرت المتلازمة لأول مرة في أواخر القرن التاسع عشر على يد الطبيب الفرنسي جول كوتارد، الذي لاحظ حالة مريضة تعتقد أنها بلا دم ولا أعضاء وأنها غير قادرة على الموت لأنها “معدومة الوجود”. منذ ذلك الوقت، أصبح المصطلح يُستخدم لوصف أي حالة يطغى عليها وهم إنكار الذات أو الاعتقاد بالفناء.
يعيش المصاب حالة من الانفصال الشديد عن الواقع، فيرى نفسه وكأنه جسد بلا حياة، أو يشعر أنه لم يعد جزءًا من العالم. وقد يصل الأمر إلى إنكار وجود أطراف معيّنة، أو الادّعاء بأن القلب توقّف، أو أنّ المخ لم يعد يعمل.
أسباب محتملة خلف ظهور المتلازمة
حتى اليوم، لا يوجد سبب واحد واضح يقف خلف متلازمة كوتارد، لكن الدراسات تشير إلى علاقة وثيقة بينها وبين بعض الحالات الصحية أو النفسية. من أهم العوامل المحتملة:
1. الاكتئاب الشديد
تظهر المتلازمة غالبًا لدى الأشخاص الذين يعانون من درجات عالية جدًا من الاكتئاب، خاصة الاكتئاب المصحوب بأفكار سوداوية عميقة وفقدان معنى الحياة.
2. الاضطرابات العصبية
أشارت تقارير طبية إلى ظهورها لدى بعض المصابين بحالات مثل:
إصابات الدماغ
الزهايمر
التصلّب المتعدد
السكتات الدماغية
هذه الحالات قد تؤثر في المناطق المسؤولة عن الوعي والإدراك والهوية الشخصية.
3. اضطرابات نفسية أخرى
قد ترتبط المتلازمة بالفصام، الاضطراب ثنائي القطب، وبعض أنواع الذهان، لكن هذا لا يعني أنّ كل من يعاني من هذه الاضطرابات معرض لهذه الحالة النادرة.
الأعراض الأكثر شيوعًا
تتدرّج أعراض متلازمة كوتارد من خفيفة إلى شديدة، وتشمل:
الاعتقاد بأن الشخص ميت أو غير موجود
الشعور بأنّ أعضاء الجسم غير عاملة أو مفقودة
فقدان الإحساس بالذات أو الهوية
الامتناع عن الأكل أو الشرب نتيجة الاعتقاد بعدم الحاجة إليهما
العزلة الشديدة
أفكار انتحارية في بعض الحالات
ورغم غرابة هذه الأعراض، فإنّ المريض لا يفتعلها، بل يعيشها كواقع حقيقي تمامًا.
كيف يتم تشخيص المتلازمة؟
لا يوجد اختبار محدد لتشخيص متلازمة كوتارد، ولكن يعتمد الطبيب على:
تقييم الحالة النفسية
تحليل التاريخ المرضي
استبعاد المشكلات العصبية عبر الفحوصات
وغالبًا ما يتم التشخيص ضمن إطار اضطرابات أخرى، لأن المتلازمة نفسها ليست تصنيفًا مستقلًا في معظم المراجع الطبية.
العلاج: رحلة لاستعادة الشعور بالحياة
يعتمد علاج كوتارد على معالجة الاضطراب الأساسي المسبب لها. وتشمل الخيارات المتاحة:
1. العلاج الدوائي
يستخدم الأطباء أحيانًا:
مضادات الاكتئاب
مضادات الذهان
مهدئات في الحالات الشديدة
2. العلاج النفسي
يساعد العلاج السلوكي المعرفي في إعادة بناء صورة الذات والتعامل مع الأفكار الوهمية.
3.العلاج بالصدمات الكهربائية (ECT)
في الحالات التي تترافق مع اكتئاب حاد، قد يكون هذا العلاج خيارًا فعّالًا تحت إشراف طبي متخصص.
لماذا تثير هذه المتلازمة اهتمامًا كبيرًا؟
لأنها تفتح بابًا واسعًا للتساؤلات حول الوعي الإنساني، والإدراك، والهوية. كيف يمكن للعقل البشري أن يصل إلى درجة ينكر فيها وجود الجسد نفسه؟ وما الذي يجعل بعض الأشخاص أكثر عرضة لهذا النوع من الأوهام؟ هذه الأسئلة ما زالت محلّ بحث، ما يمنح المتلازمة أهمية علمية ونفسية كبيرة.
خلاصة
متلازمة كوتارد ليست مجرد حالة غريبة، بل تجربة قاسية يعيش فيها الفرد صراعًا وجوديًا عميقًا. وعلى الرغم من ندرتها، فإنّ فهمها يُسهم في توسيع معرفتنا بكيفية عمل العقل، ويساعد في دعم المصابين بالاضطرابات النفسية الشديدة. الأهم من ذلك هو إدراك أنّ المعاناة النفسية تحتاج إلى اهتمام ورعاية، وأن طلب المساعدة خطوة ضرورية نحو التعافي.