
عقدة الكمال: كيف نجلد أنفسنا باسم المثالية؟
عقدة الكمال: كيف نجلد أنفسنا باسم المثالية؟
ثمة شيء خفي يستنزف طاقتنا دون أن ننتبه له… إنه ذاك الصوت الصامت الذي يهمس في الخلفية:
"لم يكن هذا كافيًا… كان عليك أن تفعل أفضل".
"لا تنشره، لن يُعجب أحدًا".
"أنت لست مستعدًا بعد… انتظر حتى يكون كل شيء مثاليًا".
الكثيرون يعيشون هذا النوع من الضغط النفسي، ويظنون حرصًا على الجودة أو دافعًا للتفوق. لكن الحقيقة؟ هذا الصوت ليس دائمًا إيجابيًا، إنه ما يُعرف في علم النفس بـ "عقدة الكمال".
ما هي عقدة الكمال بالضبط؟
عقدة الكمال ليست مجرد رغبة في تقديم عمل جيّد أو تحسين الذات؛ بل هي حالة نفسية تدفع الإنسان إلى الاعتقاد بأن أي شيء أقل من المثالية هو فشل تام، وأن ارتكاب الخطأ ولو كان بسيطًا، يقلل من قيمته الشخصية.
في هذه العقلية، لا يكفي أن تبذل جهدك؛ بل يجب أن تكون الأفضل دومًا دون هوامش، دون سهو أو نقصان ومن هنا يبدأ جلد الذات ورفض التقدير وتأجيل المشاريع…
كيف تنشأ هذه العقدة؟
غالبًا ما تتشكّل جذورها في سنوات الطفولة والمراهقة:
- عندما يُربّى الطفل على أن النجاح هو السبيل الوحيد لنيل الحب أو الاحترام.
- حين يُقارن دائما بغيره مثل قولنا: "أختك أفضل منك"، "لماذا لا تكون مثل فلان؟"
- أو حين يُمدَح فقط عند التفوق ويُلام عند أول خطأ بسيط.
مع مرور الوقت تبدأ هذه الرسائل في التراكم داخليًا ويكبر الإنسان وهو يربط قيمته الشخصية بمدى الكمال الذي يظهر به أمام نفسه والآخرين …وقد تكون الكمالية نتاجًا لتجربة صادمة سابقة: مثل فشل كبير لم يُغتفر أو موقف محرج عالق أو حتى بيئة أسرية فيها معايير قاسية…
قصة حقيقية بشكل مؤلم…
“ياسين” شاب ذكي وطموح كتب مقالة رائعة وقرأها عشرات المرات ثم حذفها فجأة لأنه وجد فيها ثلاث جمل "ضعيفة" في نظره…أعاد المحاولة مرارًا ورفض أن ينشر أي شيء لا يشعر حياله بأنه “مثالي تمامًا”!!
النتيجة؟
مرّت الشهور ولم ينشر شيئًا وبدل أن يفرح بإبداعه أصبح حبيسًا في غرفة التردد : هذه هي نتيجة الكمالية.
ما الفرق بين الإتقان والكمالية؟
من المهم أن نُفرّق بين الإتقان الصحي، والكمالية المؤذية:
الإتقان: تطوّر تدريجي واقعي – قبول للخطأ والتعلّم – يقود إلى الفخر بالتحسن.
الكمالية: سعي مهووس للكمال التام – رفض لأي نقص أو تراجع – تقود إلى جلد الذات والتردد.
الكمالية تمنعك من البدء، من المحاولة، من النشر، من أن تكون إنسانًا عاديًا…بينما الإتقان يمنحك الحق في أن تُخطئ ثم تتطور.
علامات تدل أنك مصاب بعقدة الكمال:
- تأجيل متكرر لأي مشروع بدافع “عدم الجاهزية الكاملة”.
- نقد داخلي شديد لأي محاولة.
- صعوبة تقبّل المجاملة أو الاعتراف بالإنجاز.
- شعور بالذنب رغم الأداء الجيد.
- التوتر المفرط قبل أي عرض، اختبار أو قرار بسيط.
- رفض عرض فكرتك إلا بعد تعديلها عشرات المرات!!
وقد تظهر الكمالية في مظهر غير متوقّع: كسل، انسحاب، تأجيل دائم… لكنها ليست كسلًا حقيقيًا، بل هي في الحقيقة خوف من النقص…
لكن الكمالية لا تظهر دائمًا بصوت واضح…أحيانًا تختبئ في التفاصيل الصغيرة:
عندما تمضي ساعة في تعديل فقرة قصيرة، أو حين ترفض إرسال رسالة مهمة لأنك لم تختر الكلمات "المثالية" بعد أو حتى عندما تؤجل تنظيف غرفتك لأنك لا تملك الوقت لترتيبها "كما ينبغي تمامًا".
هذا النمط الخفي قد يتسلل إلى كل جوانب الحياة؛ فلا يعود الشخص قادرًا على إنهاء مهمة أو بدء مشروع أو حتى الاستمتاع بلحظة راحة، لأنه يشعر بأن هناك دائمًا شيئًا ناقصًا… شيئًا لم يُنجز كما يجب.
الكمالية تقتل المتعة، وتستبدلها بالتوتر.
فبدل أن تشعر بالفخر لإنهائك مهمة ما تشعر بالذنب لأنك لم تقم بها بشكل كامل.
وبدل أن تبدأ بفرح تبدأ وأنت تائه في التفكير في كيف ستبدو النتيجة في عيون الآخرين.
وتخيل تأثير هذا كله على الصحة النفسية…شعور دائم بعدم الكفاية، توتر مزمن، قلق من تقييم الآخرين و إرهاق داخلي متواصل.
الكمالية ليست مجرد “حرص مبالغ فيه” ؛ بل قد تكون بوابة للاكتئاب،الانسحاب أو حتى العزلة.
وفي العلاقات؟ الكمالية لا ترحم.
الشخص المصاب بها يتوقع من نفسه ومن الآخرين نفس المعايير الصارمة، فإن أخطأ صديق أو شريك يشعر بخيبة كبيرة، وإن اعتذر، لا يرضى بسهولة لأنه لا يقبل الخطأ أساسًا.
لذلك، فالتسامح مع النفس هو أول طريق للتسامح مع الناس فحين تقبل أنك إنسان سترى الآخرين كذلك، وحين تغفر لنفسك الهفوات الصغيرة سيصبح قلبك ألين تجاه من تحبهم.
هل الكمالية مفيدة أحيانًا؟
نعم في حدودها الدنيا هي تدفع بعض الناس للتفوق، الإبداع، والانضباط لكن ما إن تتجاوز الحد تنقلب إلى سيف مسلط على الروح.
والتحدي الحقيقي؟
يتجلى في أن تُنجز أن تُحسن وأن تتطور…دون أن تُرهق نفسك بسياط "يجب أن أكون الأفضل دائمًا".
وهنا يكمن التوازن: أن تعمل بجد وتحاول بإخلاص ثم تقول لنفسك بصدق: “هذا ما استطعت إليه سبيلا وأنا راضٍ الآن”، لأن الرضا لا يعني الركون؛ بل أن تسير بخطى بشرية… لا بخطى خيالية.
خطوات عملية للتحرر من الكمالية:
1. راقب دون قسوة :
لاحظ كيف تُفكر عندما تُخطئ ما الكلمات التي تستخدمها؟ فقط الملاحظة دون مقاومة كفيلة ببدء التغيير.
2. ابدأ بشيء غير مثالي عمدًا :
نعم جرب أن تنشر شيئًا تعرف أنه ليس الأفضل، سترى أن العالم لم ينهَر… وأنك ما زلت تستحق التقدير.
3. دوّن خطواتك، لا فقط نتائجك:
في دفتر صغير اكتب كل مرة بدأت فيها شيئًا أو جربت أمرًا جديدًا… حتى لو لم تُكمله.
4. كرّر هذه الجملة كل صباح:
"سأختار التقدّم على الكمال… وسأرحم نفسي كما أرحم الآخرين."
5. لا تقارن بدايتك بنهاية غيرك:
نحن نرى إنجازات الآخرين بعد مئات المحاولات… بينما نقسوا على أنفسنا من أول تجربة.
6. حدّد أولوياتك:
ليست كل مهمة في حياتك تستحق نفس المجهود ؛ هناك أعمال يجب أن تُتممها ببساطة لا بإتقان كامل.
7. اجعل وقت التقييم بعد الإنجاز لا قبله.
لا تحكم على ما لم يُولد بعد ؛ ابدأ أولًا ثم قيّم لاحقًا.
الخلاصة
وربما بعد كل هذا أهم درس نتعلمه هو أن الإنسان لا يُقاس بكماله؛ بل بقدرته على المحاولة رغم عثراته : أن تُكمل رغم الشك، وأن تستمر رغم الخوف، تلك هي الشجاعة الحقيقية…وهو الطريق الذي يليق بكل من اختار أن يكون صادقًا مع نفسه.